على فترات متقطعة كنت أناقش مع الفنانين نادر جنى والريح أمبدى موضوع الرسومات الكاريكاتيرية المتشابهة وبعض اﻷقاويل عن بعض السرقات الفنية، وقد وجدت تبايناً وإختلافاً بين أفكارنا حول هذه هذه الظاهرة الدخيلة على الفن الكاريكاتيرى، وكسراً لطريقة نقل اﻷفكار شفاهة والآراء التى تبقى حبيسة المقاهى و الصالونات ودواخل الصدور، لذا فأنا أسجل هنا مسودة مبدئية
لآرائى فى الموضوع للتوثيق وللمزيد من النقاش والتفاكر.
كمدخل أولى ﻷسباب تشابه بعض الأفكار الكاريكاتيرية فأنه يمكننى وضع تصورى الشخصى لمصادر الفكرة الكاريكاتيرية والتى على أساسها سوف أشرح وجهة نظرى المتباينة والمختلفة عن رؤية جنى وأمبدى لما تشابه علينا من الكاريكاتير. مبدئياً يمككنى أن أضع تصنيفى الخاص لمصادر الفكرة الكاريكاتيرية وأصنفها إلى خمسة أقسام وهى: بناء الرسم على المفارقة اللفظية، نقد الحدث السياسى اﻵنى، تحوير الرموز والصور، ثم اﻹقتباس من المنتوجات اﻹبداعية اﻷخرى وأخيراً خلق الفكرة الأصلية.
القليل من العصف الذهنى قد يوصلنا إلى العديد من الكاريكاتيرات المتعددة اﻷشكال ولكنها كلها منسوجة من بكرة خيط واحدة.
الصنف الثانى هو الكاريكاتيرات المبنية على نقد الحدث السياسى اﻵنى، وهذه الطريقة قد تجعل بعض رسامى الكاريكاتير فى الصحف اليومية تدور أعمالهم حول فكرة واحدة هى اﻷبرز على الساحة السياسية. فإذا قمنا على سبيل المثال برصد الرسومات الكاريكاتيرية التى تتناول فترة ما قبل إستفتاء إستقلال جنوب السودان فنجد نسبة مقدرة منها مبنية على فكرة رسم السودان منقسماً إلى قسمين، أو هنا سكين أو منشار يقسم البلد إلى نصفين، أو أن هناك يدان إثنان تسحبان البلد فى إتجاهين مختلفين وغيرها. وهى كلها رسومات قد تبدو متشابة ﻷنها ترسم الحدث اﻵنى فقط ولا تتناول بالنقد اﻷسباب المنطقية التى أدت إلى حصول الحدث، وهى أيضاً لم تتناول توابع ما بعد الحدث.
الرؤية الكاريكاتيرية لرسم حدث ما قد تأتى للجميع متشابهة ولكن الرأى الشخصى فى الحدث وتحليله لا يمكن ان يكون متطابقاً ﻷن المرجعية اﻷيدولوجية واﻷخلاقية لكل فنان تختلف عن اﻵخر وهنا يأتى الفرق. مثال آخر، إذا راجعنا أرشيف الرسومات الكاريكاتيرية التى تناولت حادثة رشق الرئيس اﻷمريكى جورج بوش بالحذاء عام 2008 فإننا سنجد المئات من الرسومات المتشابهة، ولكن أكثر الرسومات التى شاهدتها كانت مكررة وترسم المشهد الشهير تصويراً أكثر مما تقدم رؤية نقدية له، ومن الرسومات التى تكررت كثيراً عن حادثة الزيدى، خصوصاً فى بعض الصحف العربية، هو رسم يصور دخول إعلاميين إلى مؤتمر صحفى حفاة بدون أحذية، والرسم الأخير يمكننا أن نضع ضمن صنف الكاريكاتير المبنى على المحكى من الكلام، فقد سبقت هذا الكاريكاتير نكتة شاعت وسط المنتديات العربية بنفس الفكرة فقام بعض رسامو الكاريكاتير العرب بتنفيذها كما هى بدون أى إضافات.
من اﻷساليب الشائعة فى الرسم الكاريكاتيري هو إحداث مفارقة بصرية عبر تحريف الصور والرموز وكمثال لذلك نجد مئات واﻵف الرسومات الكاريكاتيرية المبنية على تحوير نجمة داؤود أو العلم اﻷمريكى أو تمثال الحرية أو صليب النازية المعقوف وكذلك شعار الشيوعية المتمثلة فى المطرقة والمنجل أوالنجمة والهلال كرمز للدين اﻹسلامى وغيرها من الشعارات. البعض من الزملاء الفنانين لا ينتبه لمدى تكرارية إعادة رسم نجمة داؤود بإستخدام عظام أو شعار القراصنة أو الصليب المعقوف. كذلك رسم تمثال الحرية كشعار ﻷمريكا وفى يده هراوة أو سلاح فتاك. إستخدام الرموز والشعارات بدون تجديد وبإستسهال يضيف المزيد من الرسومات المتشابهة إلى أرشيف الكاريكاتير والتى قد تضع بعض الرسامين بدون قصد منهم فى خانة سارقى اﻷفكار.
يتبع بعض الرسامون أسلوباً فنياً أحبه للغاية وهو اﻹقتباس من المنتجات اﻹبداعية اﻷخرى. بالنسبة لى، فأنا أرى فى هذا اﻷسلوب مؤشراً على ذكاء الفنان وسعة إطلاعه وتماسه مع فنون إبداعية أخرى كالرواية والفلسفة، التصوير، السنيما، المسرح والمثولوجيا والقصص الدينية وغيرها، وكما يعبر هذا السلوب عن قوة ثقافة الفنان فإنه أيضاً يؤكد على ثقته فى ثقافة الملتقى ومراهنته على ذكاءه.
من أمثلة اﻹقتباس الكاريكاتيرى من الصنوف اﻹبداعية اﻷخرى هو تلك الرسومات المبنية على صورة فتوغرافية شهيرة، مثل صورة الرجل الصينى مجهول الهوية والمعروف عالمياً بأسم (تانك مان)، الرجل الصينى المجهول كان يحمل كيسين من النايلون ووقف بجسده أمام ثلاثة دبابات ضخمة وتحداها بإصرار مما أجبرها على التوقف فى قلب ميدان تيانمين عام 1989. الصورة الأكثر شهرة للحدث إلتقطها المصور الأسوشيد برس اﻷمريكى جيف واندرز، هذه الصورة جعل الـ(تانك مان) المجهول من ضمن أقوى 100 شخصية غيرت العالم فى القرن العشرين حسب مجلة التايم الأمريكية . من الصور الشهيرة التى بنيت عليها بعض الرسومات الكاريكاتيرية هى صورة إحتراق برجى التجارة، وصورة مقتل أرنستو تشى جيفارا وصور متعددة لفنان المدرسة السيرالية سلفادور دالى.
هناك أيضاً رسومات مقتبسة من لوحات تشكيلية مثل لوحة "درس التشريح" لـ رامبرانت، “الموناليزا" للفنان ليوناردو دافنشى، "خلق اﻹنسان" للرسام الإيطالى مايكل أنجلو و"الجيرونيكا” للفنان الأسبانى بابلو بيكاسو، ولوحة "الصرخة" للفنان النرويجى إدفارت مونك . أما على صعيد الرواية فنجد اﻹقتباسات الكاريكاتيرية من روايات كـ" دون كيشوت" لـ سرفتيس، "تاجر البندقية" لـ وليام شيكسبير وغيرها. من اﻷفلام نجد الـ"تايتانيك" و"العراب" وغيرها.
وهناك بعض الرسومات مقتبسة من مثيولوجيا وقصص أسطورية كـ "أسطورة إغتصاب أوروبا" التى إستخدمها على سبيل المثال الكاريكاتيرست الفرنسى ميشيل بلانتو عام 1995 للتعبير عن خطورة إنتشار مرض جنون البقر فى القارة الأوروبية، وفى اﻷسطورة اﻷغريقية يتحول زيوس إلى ثور ابيض كانت تلاعبه أوروبا حتى قام بإختطافها والركض بها تجاه البحر اﻷبيض المتوسط فسبح بها إلى جزيرة كريت وهناك قام بإغتصابها وكان النتاج ثلاثة اطفال ولدوا سِفاحاً. فقام بلانتو بتصوير مرض جنون البقر ومدى إنتشاره فى ذلك الحين كأنه قد قام بإعادة بعث الأسطورة وقصة الثور المجنون مع أوروبا الوديعة.
من الميثولوجيا الإغريقية التى قام بعض فنانى الكاريكاتير باﻹقتباس عنها أسطورة (سيزيف) الذى قام بخداع (سانتوس) إله الموت وتكبيله، فقام كبير الإلهة زيوس بإلزامه بعقاب أبدى وهو بأن يدحرج صخرة عظيمة من سفح الجبل إلى قمته، وتمثلت مأساته أن سيزيف عندما كان يصل إلى قمة الجبل كانت الصخرة تسقط مجدداً نحو القاع ويظل يحاول فى دفع الصخرة العظيمة إلى أن تعاود السقوط فى القاع مرة أخرى، وأثناء هذه الرحلة المريرة كانت الطيور تأكل كبد سيزيف الدامى. ومن هنا أصبح سيزيف رمزاً للعذاب الأبدى، وذلك أن البشرى سيزيف ظن بأن ذكاءه سيفوق مكر الإله زيوس وهو ما سيجعله ندياً متحدياً للإلهة. ومن القصص الدينية التى ألهمت بعض فنانى الكاريكاتير، والغربيين بصفة خاصة، هى قصة عبور موسى وبنى إسرائيل البحر الحمر، وقصة سفينة نوح والفيضان العظيم، وصلب المسيح والسمكة التى إبتلعت يونس وغيرها.
مجمل الفكرة فى شأن اﻹقتباس من المنتجات اﻹبداعية أنه مهما تعددت اﻷفكار المقتبسة من مصدر واحد إلا أنه من الصعب أن تتطابق اﻷعمال الكاريكاتيرية ﻷن إستعياب كل فنان وتفاعله مع أى نف إبداعى آخر سيكون مختلفاً عن اﻵخرين، وإحتمالات تعدد اﻷفكار المتشابة يكون قليلاً ﻷن هذا اﻷسلوب الفنى يتطلب معرفة الفنان أولاَ بذلك الصنف اﻹبداعى الذى قام باﻹقتباس عنه، ومن بعد ذلك تأتى مرحلة اﻹستعاب والتفاعل ثم أخيراً تنفيذ الفكرة، وهى أشياء شخصية للغاية ومن الصعوبة بمكان أن تتشابه بين إثنين. فعلى سبيل المثال، كم هو عدد الرسومات الكاريكاتيرية المتشابهة التى قد تستهلم من مشهد وقوف الممثلة كيت ويسلون على سطح سفينة التايتانيك و ليوناردو دى كابيرو يصيح: “أنا ملك العالم"؟ هل يمكن لمن لم يقرأ أو يعرف قصة أنف الدمية الخشبية بينوكيو للمؤلف الإيطالى كارلو كولودى أن يبنى فكرة كاريكاتيرية عليها؟ ما هى إحتمالات تشابه فكرتين كاريكاتيريتين مقتبستين من لوحة الرجل الفيتوزى التى رسمها ليوناردو دافنشى؟
أخيراً، فإن أقوى أساليب الفكرة الكاريكاتيرية هو (خلق الفكرة اﻷصلية) والتى يقوم الفنان بتنفيذ فكرة الرسم معتمداً فقط على خصوبة الخيال والعصف الذهنى والتفكير العميق، وفى هذا اﻷسلوب فإن إحتمال تشابه الأفكار يقل كثيراً جداً، وهذا الشئ كما أظن واضح ولا يحتاج إلى الكثير من اﻹسترسال والشرح.
ما قمت به هو عمل ترتيب تصاعدى ﻷساليب إستباط الفكرة الكاريكاتيرية فى تقديرى الخاص، ويمكننا تمثيل هذه النقاط فى شكل هرم قاعدته تمثل اﻹنتشارية العددية ومشاعية الفكرة، وكلما صعد إلى قمة الهرم فإن عدد التشابهات يقل ولكن قوة اﻷفكار تزيد، وهو ما يقلل من إحتمالا تشابه الرسومات كاريكاتيرية، وهو الشئ الذى يزيد من أصالة الرسم الكاريكاتيري، الأصالة التى تبعد مبتكريها عن منطقة تشابه ومشاعية اﻷفكار وبتعدهم كذلك من تهمة السرقة الأدبية والتى يسقط فيها بحسن النية بعض الفنانين نتيجة لعدم إهتمامهم بتطوير قدراتهم الفنية وصقل موهبيتهم واﻹرتقاء بأفكارهم، وكذلك كسلهم من اﻹطلاع على أعمال بقية زملاء الفن فى أرجاء العالم.
أعتقد بأن القضاء على ظاهرة الرسومات الكاريكاتيرية المتشابهة أو المسروقة يبدأ من حرص الفنان بإبعاد نفسه عن تلك المنطقة الخطرة وأن يجد لنفسه حافزاً يرفع به من سقف المنافسة مع "ذاته" من كل حين إلى اﻵخر، وبالمنافسة يتطور اﻹنسان فى عالم فيه البقاء للأصلح. فنان الكاريكاتير ليس موظف حكومى مهمته ملء فراغ فى ورقة بيضاء بأى فكرة ضعيفة أو مقلدة، والكاريكاتيرست كاتب يرسم أفكاراً ورسام يكتب ألواناً.
2 comments:
مقال جميل جدا
و تحليل نافذ
أخاف أن يترجم هذا التحليل إلى فكرة الإقتباس من الثقافة الغربية بحسب الأمثلة المضروبة
بما فيها رجل ساحة تيان مين، لأنها صورة أعيد إنتاجها في الذهن اليوروسينتريك
لكن الثقافة الشرقية، و الميثولوجيا غير الإغريقية و الرموز التاريخية (أحداث و شخصيات) و الأفلام
و التراث الشعر و الشعر المعاصر، كلها تدخل ضمن ما ذكرت من توسعة مجال الإبداع للفنان
و التحليل العميق للحدث السياسي كما ذكرت أيضا مفقود، إذ أنه يعتمد على التحليل المباشر للحدث دون ما أوصل إليه كما ذكرت
أو حتى ما النتائج المتوقعة منه .
و المشكلة الأساسية هي إنو الفنان يظن إنو مفروض يترجم توقعات المتلقي مش إنو يكسرها ... كأنها نكتة قديمة مشتركة بينهم ، و ده زي ما قلت عدم ثقة في ذكاء القارئ
و أخيرا المشكلة برضو في نظرة الفنان ليه نفسو كمعلق على الأحداث لا محللا لها ، كأن كل المتوقع من الفنان هو خلق كلييشيه أو افيه من الحدث الجاري، و الحدث الجاري ده زاتو مشكلة ، تحليل الخبر السياسي و الاقتصادي الأبرز ، عشان كدا بتلقى في الجرايد لو في خبر رئيسي كل الكاريكاتيرات مبنية عليه. في كسل برضو و إعتماد كامل من الفنان على السياسة التحريرية للصحف
مقال جميل يا طلال خلا الواحد يرغي
محاورة ممتازة , وموضوعية محترمة
Post a Comment