Wednesday, April 4, 2012

أزمة الهوية في فضاء الأسطورة الدينية

طلال الناير

قام عبد المنعم عجب الفيا(1) بتقديم أطروحة يمكن اختصارها بأن إثيوبيا Ethiopia المقصودة في التوراة والإنجيل إنما هي السودان Sudan الحالي الذي ذكر سِفر حزيقال – الإصحاح وجود الجنة فيه. وأن نهر جيحون الذي يشق الجنة إنما هو نهر النيل. وقال كذلك بأن النبي شُعيب سوداني. وقد قام عجب الفيا بتأييد أطروحة النيل أبو قرون في سودانية موسى باستناده على رواية الطبري(2) الذي وصف موسى بأنه «رجلاً آدم أقني جعداً طوالاً». وأرجع عجب الفيا هذا اللبس إلى أخطاء في ترجمة الإنجيل والتوراة تسبب في نسب تاريخ السودان بطريق الخطأ إلى إثيوبيا، والتي اسمها الأصلي هو Abyssinia؛ أو الحبشة.

لقد وجدنا أطروحات مشابهة لأطروحات عجب الفيا وأقوال مشابهة لها فقمنا بإيرادها في هذا المقال وذلك لأننا رأينا بأنها تنتمي لنفس السياق من الأفكار وتعتمد تقريباً على نفس مصادر المعلومات في استدلالاتها واقتبساتها. ومن الأطروحات المشابهة كتاب(3) النيل أبو قرون الذي قال فيه بأن النبى موسى سوداني وليس مصري، وأن وجود اليهود في السودان يرجع إلى عهد النبي يوسف، وهو قد استخدم هذا التفسير لتبرير وجود يهود أفارقة من غير بني إسرائيل مستدلاً بيهود الفلاشا الأثيوبيين. وقال النيل أبو قرون إن المسطح المائي الذي انشق وابتلع فرعون هو نهر النيل وليس البحر الأحمر، وتحديداً بين منطقتي الشلال الثاني والشلال الرابع. وأن فرعون الذي في قصة موسى ما هو إلا الملك ترهاقا الذي ذكرته التوراة بسفر الملوك الثاني وسفر أشعيا، الملك ترقاها الذي قام بمحاربة الأشوريين وأمراء فينيقيا ويهوذا، وبعد هزيمته في فلسطين قام بصب جام غضبه على كل بني إسرائيل الذين يسكنون في مملكته والذين هم قوم النبي موسى وشقيقه هارون. قدم أبو قرون بعض الفرضيات التي تقول بأن تكليم الله لموسى لم يكن في سيناء، بل كان بالقرب من جبل البركل شرق نهر النيل، وهي النقطة التي يرجح غرق فرعون وجنوده فيها!!

محاولة عجب الفيا وأبو قرون في «سودنة الدين» ليست بجديدة؛ فعبد الله الطيب قال بأن السودان هو أرض الهجرة الأولى لصحابة النبي محمد بن عبد الله(4)، وأن الملك النجاشي سوداني الأصل وليس حبشياً. أما حسن الفاتح قريب الله فأصدر كتاباً بنفس الفكرة بعنوان «السودان دار الهجرتين»، وهو يسير في نفس الخط والرؤية. ولكن هذه الادعاءات نراها ضعيفة الإسناد بسبب تعارض الروايات والوقائع كوجود آثار قصر النجاشي في إثيوبيا على سبيل المثال. وحتى الادعاء بأن قصر النجاشي كان في سواكن فهو ادعاء ضعيف لعدم وجود أي آثار مسيحية في كامل منطقة شرق السودان. كما أن ثروت قاسم ادَّعى بأن النبي آدم سوداني الجنسية وأن مهبطه في الأرض كان في منطقة كرمة، وقال كذلك بأن: «... ثالث الأنبياء إدريس سوداني؛ كما أشارت الدراسات الأثرية(5). وقد بحثنا عن مصدر مختص بعلم التاريخ والآثار لتبيان صحة ادّعاء ثروت قاسم ولم يتوفر لنا أي مصدر يؤيد زعمه.

لا نتفق مع رؤية عجب الفيا وآخرون لسودانية موسى وبقية الشخصيات الدينية، فنحن نرى بأنه من الخطأ الاعتماد على التوراة كمرجع علمي؛ فهي تتصف بعدم الدقة. ونحن نشك في جدوى الاستدلال بالتراجم الحديثة للكتاب المقدس؛ فالكثير من المعلومات تسقط أثناء نقل المعلومات من الآرامية إلى العبرية ثم الرومانية ومن بعدها اللاتينية، وأخيراً النقل للغة الإنجليزية والعودة بترجمة عربية تحمل الأخطاء التراكمية لكل الترجمات السابقة على مر مئات السنين.

ونحن نرى بأن طريقة عجب الفيا وغيره في إيجاد الجذور السودانية للقصص الدينية لهي طريقة غير علمية. فهناك ثغرة كبيرة في الاستدلال بالكتب: التوراة والإنجيل التي لا يوجد فيها ثبات وديمومة في المسميات. فاسم مصر الحالي Egypt هو اسم حديث نوعاً ما، واسمها القديم كان خمت/ كِمت Kmt. أما اسم إثيوبيا Ethiopia الحالي للحبشة Abyssinia فلم يستخدم كاسم للدولة إلا عام 1930م بعد تولي الإمبراطور راس تفاري هيلاسيلاسي الحكم والذي قام بتغيير الاسم لدواعي دينية بحتة بسبب زعامته للكنيسة الأرثوذوكسية التي ترى في نفسها الكنيسة الوحيدة التي حافظت على نقاء العقيدة المسيحية.

اسم السودان القديم هو كوش Kush، أما استخدام اسم السودان الحالي Sudan فهو أيضاً حديث نوعاً ما ولا يمكن القياس عليه كديل ثابت. اقترح المؤرخ دوز دنهام التخلي عن اصطلاح أثيوبيا لوصف المملكة النبتية المروية في شمال السودان وفضَّل استخدام مصطلح كوش الذي كان يُعرِّف قدماء المصريون به جيرانهم في الجنوب، ولم يستخدموا مصلطلح أثيوبيا قط، بل كوش(6).

والإغريق يستخدمون كلمة إثيوبيا كوصف لسحنة عرقية أكثر منها وصف لرقعة جغرافية، فالجغرافيون في العصر الوسيط من أمثال ديودورس وسلكيوس يطلقون على الكوشيين لفظ أثيوبيين، لذا فالمصطلح غامض وغير محدد ويشمل أجناس مختلفة من الناس تشمل العرب والهنود(7). هناك رواية للرحالة هيرودوتس يحكي فيها عن الحرب والاسترقاق المتبادل بين الأثيوبيين Ethiopians والجرامنت Garamanti (8). وقد كانت ساحة المعارك في جنوب غرب ليبيا(9)! التباعد الجغرافي بين مملكة أكسوم في شرق أفريقيا ومملكة جرمة في الغرب الأوسط للصحراء الأفريقية يثبت وجهة نظرنا بعدم دقة استخدام مصطلح أثيوبيا.

إيكووا كِنّياتا لديها أطروحة أخرى مثيرة للاهتمام يمكن اختصارها بأنها ترى بأن الجذور العرقية لـ»بوذا» تعود إلى إفريقيا وهو ليس شخصاً محدداً بل موضوع أو نمط مشترك من الشخصيات التي تتمتع بخصائص مشتركة. فبوذا، ليس اسماً بل هو عنوان يعني «المستنير» وهذا المعنى مشترك بين الكثير من الآلهة الإفريقية مثل (Gautama)، (Siddhartha). وقد قام السير (وليم جونز) بوضع كل هؤلاء في تصنيف واحد باسم Cushites، أو الكوشيين، وهم الذين تم وصفهم في سفر التكوين.
يجب النظر لتاريخ السودان الحالي على أنه تاريخ مختصر لإقليم قاري يمتد من سواحل البحر الأحمر وحتى المحيط الأطلسي. ومن الخطأ محاولة اقتلاع السودان من محيطه الإفريقي ومحاولة إعادة إنتاجه داخل الميثولوجيا الدينية لشعوب الشرق الأوسط. محاولات سودنة القصص الدينية ستؤدي لصنع تاريخ مزيف من أجل الفخر الشوفوني وإنتاج تعصب قومي لا يلزمنا لنحس بذواتنا وبمكانتنا أمام الآخرين. عجب الفيا والآخرون يحسون بغموض تجاه الهوية السودانية لذا يحاولون إيجاد تفسيرات خاصة بهم، ولكن من ناحيتنا فإننا نرى هوية سودانية أصيلة واضحة المعالم لا تحتاج إلى أن تكون مكوناً ثانوياً ضمن ثقافات أخرى. نحن ننتمي إلى عمق إفريقيا قلباً وقالباً.

أفريقيا كان يطلق عليها اسم مثل Kham ويعني حام؛ وهو الابن أسود اللون لنوح Noah. وقد أطلقت عدة أسماء أخرى على إفريقيا مثل (سودان)، (إثيوبيا)، (كوش)، (خام/ كام)، (خِمت/ كِمت) وغيرها من الأسماء والتي تعني جميعاً «اللون الأسود»، وهو اللون الذي يريد الطيب مصطفى الهروب منه ويريد أن يشعرنا بأنه عار يجب إزالته، فهو يريد تغيير اسم دولة السودان بعد انفصال الجنوب وذلك لأنه «... جاء من كلمة أسود»(10).

« ... إن العالِم الأنثروبولوجي مثله مثل رجل الشارع؛ كلاهما يعرف بأن الأعراق موجودة: الأول لأنه يستطيع تبويب الأنواع المختلفة للجنس البشري؛ الثاني لأنه لا يمكن الشك في شهادة حسه.»؛ أو كما قال إم دون(11). العنصرية والتعصب العرقي هي نتاج جهل الناس وعدم مقدرتهم على استيعاب التميز والتنوع البايولوجي البالغ التعقيد لدرجة الجنون. لذا فالناس يدركون العالم بصورة أفضل ويكونون أكثر تصالحاً معه، ومع أنفسهم، عندما يعبدون إلهاً ينتمي إليهم إثنياً يشاهدون وجوههم في ملامحه، أو على الأقل يحسون بأنه ينتمي إلى ثقافتهم والجغرافيا التي يتحركون فيها. إحساس الراحة هذا يتطلب من البعض إلصاق هوياتهم الإثنية على حائط الدين ليخلق معتنقو الدين الواحد عشرات الروايات والصور عن الدين الواحد وليدشنوا نسخاً عديدة تخصهم عن نموذج واحد للإله، فيخلقون مركزاً جديداً على هامش الفكرة التي ينتمون إليها. وهذا الأمر يذكرنا بالكاتب والرسام الإنجليزي كونتن كرسب الذي ذهب مرة إلى إيرلندا فسألته إحدى السيدات بريبة: «هل أنت كاثوليكي أم بروتستاتي؟» فقال لها: «أنا ملحد!» فقالت له السيدة: «ولكن هل أنت غير مؤمن بإله الكاثوليك أم بإله البروتستانت؟».

إن إنكار الواقع العرقي والتنوع داخل الدين الواحد ليس بحد ذاته موقف ممكن على اعتبار أنه يقوم على إنكار للواقع القائم، وهذا دليل على تشوش كبير في الفكر. أزمة الهوية تنشأ عندما لا يحب الناس الهويات التي وجدوا أنفسهم عليها، والدين يجعل بعض الناس يتصالحون مع أنفسهم وهذا التصالح مع الذات لا يأتى إلا عندما يجدوا أنفسهم داخل قصص دينية تحكي عن أناس يشبهونهم وليس أناس بعيدين عنهم عنهم. ومن أجل ذلك ينسج البعض القصص والأساطير التي تجعلهم مرتبطين ومتواجدين زمانياً ومكانياً في نطاق الدين الذي اختاروه، ولاستخدام مساحيق التجميل والمكياج لرسم صورة مخالفة للواقع وتلوين ذواتهم لتصبح في نظرهم أجمل. ففي الواقع لا يوجد اختلاف كبير بين الأديان والثقافات والتاريخ البشري، ولكن قوة ماكينة الدعاية والبروباغندا لكل دين أو ثقافة هي التي تضع المكياج على وجهه الديانة والهوية، وهذا ما يصنع الفرق. جورج برنارد شو قال عن المكياج: «لا توجد امرأة جميلة وامرأة قبيحة، توجد امرأة تعرف استخدام المكياج وأخرى لا تعرف!». 


هوامش:

(1) عبد المنعم عجب الفيا، «السودان في الكتاب المقدس»، (صحيفة الأحداث، 13/3/2012م).
(2) رواية الطبري، (قصص الأنبياء).
(3) النيل عبد القادر أبو قرون، «نبي من بلاد السودان – قراءة مغايرة لقصة موسى وفرعون»، 2011م.
(4) عبد الله الطيب، Sudan Notes and Records - SNR

(5) ثروت قاسم، «ترهاقا وحمالة الحطب والبشير»، صحيفة الراكوبة الإلكترونية، 1/4/2012م.

(6) دوز دنهام، Sudan Notes and Records - SNR، العدد 28
(7) عثمان عبد الله السمحوني، «نبتة ومروي في بلاد كوش» - 1970م.
(8) الجرامنت: شعب قديم أسس ملكة في فران التي كانت تدير تجارة الصحراء مع القرطاجيين ولاحقاً الأمبراطورية الرومانية.
(9) جورج جيستير، «صحراء القدر»، الترجمة من الألمانية إلى الإنجليزية قام بها ستيورات توموسون – 1966م.
(10) الطيب مصطفى – صحيفة القبس – 5/1/2011م.
(11) إم دون: مُقرر اليونيسكو، محاضرة بمقر الأمم المتحدة في نيويورك – 1951م. 

No comments: