Sunday, October 20, 2019

بيسّي هيد: الجنون كسُلمٍ نحو النجوم





طلال الناير


تأسس المشروع النظري لـ فوكو Foucault على دراسة "الخبرة الإنسانية المتجاوزة للمعقول"، وكان أحد مصادر كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"؛ لوحة Yard with Lunatics التي رسمها فرانشيسكو دي غويا في العام 1798. وفيها يصور غويا جمهرة من المجانين العراة، يتقاتلون في سجن لا تأتيه الإضاءة إلا من فتحة في الأعلى، ثم في العام 1819 قام غويا بإعادة تصوير نفس الفكرة في لوحة Madhouse، لكن هذه المرة يبدو على المجانين، الذين زاد عددهم، الإنهاك الجسدي في السجن الذي أغلق غويا سقفه هذه المرة، ربما، حتى لا يزعجوا العالم بضجيجهم. استمر ضيق العالم بضجيج المجانين بوتيرته المعتادة، حتى جاء الدور، بعد قرن ونصف من Madhouse، على بيسّي هيد Bessie Head، الكاتبة التي وصفت بأنها "غريبة الأطوار" وهو نعت مهذب لشخصية لها "خبرة إنسانية استثنائية".

توثق كتابات بيسّي – رغم ذاتيتها المفرطة – لحقبة تاريخية مهمة في جنوب أفريقيا، اتسمت بالتنكيل والتهميش والعنصرية، دونتها بيسّي هيد على نسق فانتازيا تاريخية ذات شخوص سوداوية الطباع، غارقة في الهلوسات والصراعات الدموية. ورغم معاناة بيسِّي من المرض العقلي في أكثر فترات حياتها، إلا أنها حافظت على مقدار من رباطة الجأش مكّنها من تدوين جزء من "الخبرة الإنسانية الاستثنائية" التي مرّت بها، فلم تغلق الكاتبة على "مجانينها" الأسوار والأسقف كما فعل غويا، بل أطلقتهم أحراراً على صفحات رواياتها. كانت بيسّي من النساء السود القلائل في جنوب أفريقيا اللائي استطعن اختراق حقل كتابة السيرة الذاتية، ذلك الفضاء الذكوري الذي تسيطر عليه الطبقة الأرستقراطية الحاكمة من البيض التي كانت تنظر بقلق نحو الشخصيات التي تحركها هذه الكاتبة: الفقراء، المومسات، رجال الشرطة الفاسدون، السجناء السياسيون، الجوعى، المجذومون، وكذلك المجانين.

ولدت بيسّي في مدينة بيترماريتزبرغ عام 1937 ثمرة نزوة بين امرأة بيضاء ثرية كانت تعاني مرضاً عقلياً، وخادم أسود مجهول. جعل المرض الأم تنزوي إلى مكان منعزل لتلد فيه طفلتها، التي ستعاني أيضاً من ذات العلة العقلية، إضافة إلى معاناتها من عدم الترحيب في بلادها بمن كانت في مثل وضعها. شبهت بيسّي "الولادة السرية" التي أتت بها إلى العالم بولادة المسيح. صورة دينية زاد من رسوخها في مخيلة الطفلة النشأة في بيت كاثوليكي محافظ. كانت الأم كانت مُصرّة أن تمنح اسمها للمولودة، ليصبح اسم الأم والابنة متطابقين في الأوراق الرسمية: "بيسّي إميليا إميري". وبما أن الأم المريضة كانت عاجزة عن تربية ابنتها، تم إرسال الطفلة إلى عائلة طلبت تبينها، ولكن سرعان ما رفضتها حين تبين أن الطفلة ليست بيضاء البشرة، فلم تجد الطفلة إلا عائلة كاثوليكية متزمتة دينياً لرعايتها، التي استمرت لفترة قصيرة فقط، ثم مجدداً، تم التخلي عن بيسّي، فأرسلت إلى مدرسة إنجليكانية على الرغم من نشأتها في بيت كاثوليكي.

كان هذا "التحول الديني" صدمة غيرت مجرى حياتها. النظام التعليمي الكنسي الصارم جعل الطفلة تعيش في عزلة موحشة زادت بعد اكتشافها حقيقية ولادتها ونشأتها، فعانت من شرخ عميق في الذاكرة، وجرح لم يندمل حتى الموت. بدأت بيسّي مسيرتها الصحافية في مجلة ذا غولدن سيتي بوست، كأول امرأة تعمل في أكبر صحيفة لا يقرأها البيض! كانت بيسّي تعاني من تمييز على أساس النوع، خلال عملها، كونها المرأة الوحيدة في مقر العمل. وعانت من التمييز العنصري من (أبناء جلدتها)، فعلى الرغم من كونها "ملونة" إلا أن جيرانها من "الملونين" كانوا يتصرفون على أنهم أرقى ثقافياً منها؛ يضطهدونها ويشككون في خلفيتها الإثنية، بسبب بشرتها الداكنة أكثر منهم، ولكن في ذات الوقت كانت بشرتها أفتح من بشرة السود.

في مدينة جوهانسبيرج عملت مع مجلة Home Post حيث التقت بطلها المتوج "مانغاليز روبرت سوبوكوي"، القائد الثوري لحزب المؤتمر الأفريقي، وهناك شهدت بيسّي "مذبحة شاربفيل" (1960) التي قامت على إثرها حكومة هنريك فيورود بحملة اعتقالات شرسة، طالت بيسّي، التي نكل بها بسبب "عدم تعاونها بكفاءة" مع الشرطة. وعقب أزمة عاطفية لاحقة، انهارت بيسّي تماماً، مما دفعها لاحقاً لمحاولة انتحار فاشلة في ذلك العام. ثم تواصلت أزماتها النفسية لتقضي ست سنوات كاملة في مستشفى للأمراض العقلية، حيث كتبت مسودة رواية The Cardinals التي كانت مهملة لظن الكاتبة بأن النص غير ناضج كفاية للنشر، فلم تنشر إلا بعد موتها. 

كانت بيسّي ترغب بمغادرة جنوب أفريقيا، ولكن نظام الأبرتهايد رفض إصدار جواز سفر لها، فلم تجد بداً سوى الخروج بلا أي إمكانية للعودة، فرحلت إلى بوتسوانا حيث عاشت كمعلمة في فقر مدقع، لكنها  فقدت وظيفتها هذه بعد فشلها في تجاوز اختبار سلامة القوى العقلية، الذي فرضته عليها السلطات التعليمية في بوتسوانا. الفقر والجنون، دفعا الكاتبة مرة أخرى إلى المصحة العقلية في العام 1969، ولكنها ظلت تكتب رغم كل الظروف، إلى أن أصاب الجميع اليأس من تغييرها، وتركوها، أخيراً، تعيش بسلام مع نفسها. هنا كانت اللحظة المنتظرة، فبدأت بيسّي في التعافي الذاتي، والأهم من ذلك؛ فقد خرجت فراشة من شرنقة الماضي الكئيب، فكان صعود أهم رواياتها “Rain Clouds” التي حققت لها ربحاً مالياً جعلها في وضع مادي مستقر مكنها من إكمال مسودة رواية “Muru” في خريف 1969؛ في ذات العام الذي خرجت فيه من المصحة العقلية، فكانت رواية A Question of Power بمثابة السجل الرسمي لمعاناتها مع الأمراض العقلية.

قهرت بيسّي الهيمنة الذكورية والعنصرية، والفقر والجوع، وفوق ذلك كله انتصرت على المرض العقلي لتحلق في فضاء الفكرة الكونية، تعلن تحيزها للمستضعفين على حساب ذوي السلطة والنفوذ، ولكن في ذات الوقت هي تكتب للجميع حتى لمن اضطهدوها. في آخر مقال كتبته في حياتها "Why Do I Write?" قالت: "أنا أبني سلماً نحو النجوم، إنني أتملك السلطة لأن آخذ كل البشر معي إلى هناك، لهذا السبب فأنا أكتب". عاشت في كنف المهمشين، وكتبت من أجلهم، واستلهمت من ألم الواقع تفاؤلاً للمستقبل، ووصلت إلى النجوم عبر سبر أغوار الفضاء المظلمة عبر "خبرة إنسانية متجاوزة للمعقول".




No comments: