Saturday, June 15, 2019

رامبو وآخرون: إتكاءة الشعراء في بلاد الحبشة


بقلم: طلال ناير

في شتاء العام 1880  غادر الشاعر الفرنسي آرتور رامبو ميناء عدن مثقلاً بغربته وأحزانه، ومثقلاً بأكياس البن الخولاني وصناديق البنادق ليبيعها في سوق هرر، عاصمة الحبشة لما يقارب من الألف عام، والتي كانت تمثل – في محيلة الأوروبيين – نهاية العالم المعروف لديهم في ذلك الوقت. سار الشاعر المتعب والمريض متاقل الخطى على حافة العالم، ولربما كان مرهقاً من الشعر ذاته، حيث لم يكتب ولا قصيدة في إثيوبيا التي قضى بها أحد عشر عاماً، بل سجل خواطره في "الرسائل"؛ آخر ما كتبه قبل أن يموت، مئات الخطابات التي دمج فيها بنعومة بين السيرة ذاتية، بأدب الرحلات.

رامبو

في أثيوبيا تبدل كل شيئ، ففي قصائده الباريسية الأولي تبرز سخرية رامبو من رجال الدين والسياسة في قصائده "Les Premières Communions" و "Les Assis" ولكن أنتهى المطاف بالرجل ليتفاخر بصداقته لرجال الحكم ورجال الدين الذين يملأون جنبات البلاط الإمبراطوري الإثيوبي. هناك كان رامبو يلبي طلب الإمبراطور منليك الثاني بشحنة أسلحة دحر بها الإمبراطور الإثيوبي الجيوش الإيطالية الغازية. لم يعش رامبو ليشهد معركة عدوة التاريخية، ولكنه عاش ليلتقي وليصادق حاكم  إقليم هرر؛ راس كونين، والد من سوف يصبح الإمبراطور في المستقبل؛ هيلاسيلاسي. تجول رامبو بين الأمزجة قبل أن يتجول بين الأمصار، ففي إثيوبيا أصبح أيقونة الشعر الرومانسي الحالم تاجر يبيع الأسلحة، يا لتقلب الأمزجة والمصائر.

رامبو في هرر

صور لسوق هرر من إلتقاط رامبو - 1883

يقع القصر الإمبراطوري على بعد مئات الأمتار من المتحف الوطني في أديس أبابا، في ساحة المتحف يوجد تمثالين فقط: تمثال هيلاسيلاسي ويقف على يساره تمثال نصفي للشاعر الروسي بوشكن الذي أدير رأسه نحو مدينة هرر، مسقط رأس جده من ناحية الأم؛ إبراهام جانيبال الذي مات بوشكن قبل أن يكمل كتابة سيرته الذاتية التي عنونها بـ Peter the Great's Negro، سيرة أراد بوشكن أن يحتفي فيها بجده الحبشي كما إحتفت إثيوبيا ببوشكن لتضع مع تمثال الشاعر لجوار من يظن البعض بأنه إله. يالحظ الشعراء.

تمثال بوشكين في المتحف القومي الأثيوبي

كان رامبو في سوق مدينة هرر يبيع الأسلحة، ولربما باع مسدساً شبيه بالذي قتل به بوشكن في مبارزته الأخيرة الخاسرة. مقتل بوشكن يذكرني دوماً بمصرع شاعر آخر، يذكرني بوشكن الشاعر الفارس، أو ربما الفارس الشاعر؛ بنظيره العربي عنتر بن شداد، وأحياناً كان يعرفه قومه بعنتر بن زبيدة، أو عنتر أبن الحبشية الذي مات متكئاً على رمحه كاتكاءة الشاعر على قصيدته. يقول ستيفن سبندر عن الشعر: "أعظم الشعر هو ما يكتبه شخصٌ يجهد نفسه ليذهب إلى أبعد مما يمكن"، رامبو وبوشكن وعنتر ذهبوا بعيداً في المكان والزمان ليتكئوا في بلاد الحبشة.

رسم يصور عنتر بن شداد

نُشر المقال في صحيفة العربي الجديد بتاريخ 21/05/2015، رابط المقال هُنا

No comments: